عندما
بلغ والده محي الدين الخمسين من عمره أراد الحج إلى البقاع المقدسة، و رفض أن
يرافقه أي أحد إلا ابنه الرابع عبد القادر الذي لم يبلغ بعد 17 سنة من عمره،
فعندما سمع الناس بالخبر أتوا من كل الجهات لتوديع محي الدين و ابنه ، فخشي الحاكم
العثماني في وهران من تحول التجمع الضخم إلى ثورة ضد النظام الفساد فاضطر إلى
احتجازهما لمدة سنتين بوهران، خاصة و أن محي الدين كان من أشد المعارضين لهذا النظام
الذي قسم الشعب إلى فئات تتقاتل فيما بينها عملا بسياسة " فرق تسد" و
الهدف من ذلك هو الحفاظ على المصالح الخاصة للنظام الذي كان ينهب عرق الشعب و يفرض
ضرائب باهضة عليه مما يسمح لحاشية النظام مواصلة حياة الرّغد و الترف بينما الشّعب
يموت جوعا، فكيف يقبل محي الدّين و ابنه عبد القادر بذلك و هما المتشبعان بحب
العدل الذي ألح عليه الإسلام.و
بعد سنتين من الاحتجاز تدخل داي الجزائر فسمح لهما بالذهاب إلى الحج معتقدا بأن
ذلك وسيلة لإبعادهما عن البلاد و لو لمدة قصيرة. فعبرا تونس و وصلا إلى الإسكندرية
عبر البحر المتوسط ليصلا إلى البقاع المقدسة برا، و عادا من الحد عبر دمشق و زارا
قبر الولي الصالح عبد القادر الجيلاني ببغداد صاحب الطريقة القادرية التي تنتمي
إليها أسرة الأمير عبد القادر، و أثناء حجهما أطلعا على أوضاع المسلمين المزرية
التي جعلتهم لقمة سهلة للاستعمار الأوروبي في الوقت الذي كان فيه حكامهم يعيشون في
غفوة عن ذلك لاهثين وراء حياة الترف و المجون.
عودته من الحج و التفرغ للمطالعة و العبادة:
عاد
الشاب عبد القادر و أبوه إلى بلدتهما القيطنة بعد أكثر من سنتين قضاياها في الحج و
الترحال و التجوال مما أكسب الشاب اطلاعا واسعا. فقد استقبلهما الناس بحفاوة كبيرة
عند عودتهما عام 1828.
و لوحظ بعد ذلك اعتزال عبد القادر في بيته لمدة
طويلة خصّها للعبادة و المطالعة الكثيرة للكتب فكان يطالع كتب الفقه و الفلسفة و
التاريخ التي أنتجها مفكرون مسلمون و إلى جانب ذلك كان يركز كثيرا في مطالعاته على
معرفة الفكر العالمي و الأوروبي، فقرأ لأفلاطون و أرسطو كما اطلع على الكثير من
الكتب التي تعتني بالفكر و الشؤون الأوروبية. فكأنه يريد الزج بين الثقافتين
الإسلامية و الأوروبية، و هو بكل تأكيد بمحاولته التعرف على تاريخ و عادات و تقاليد أو أفكار مختلف شعوب
العالم فإنه كان يطبق الآية القرآنية التي تأمر المسلم بذلك و المتمثلة في قوله
تعالى: » يا أيها الناس إن
خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم، إن الله عليم خبير « .[سورة الحجرات
الآية 13]
يتبين
لنا مما سبق أن شخصية الأمير عبد القادر قد اكتملت و هو لم يتجاوز العشرين من عمره
فهو رجل دولة و سياسة مثلما هو فارس مقدام و متصوف زاهد و عالم عارف و أب حنون و
عطوف و شاغر يغازل زوجته و يحمس المجاهدين للقتال. و كأنه كان يستعد دون علم أحد
لمهمة عظيمة.