التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الامير عبد القادر وبناء الدولة الجزائرية

أدرك الأمير عبد القادر بحم ذكائه أنه لا يمكن مواجهة الاستعمار الفرنسي إلا بعد  بناء دولة قوية و حديثة، و هذا يتطلب إقامة مؤسساتها و القضاء على القبلية و العروشية و توحيد الشعب على أساس الولاء للوطن و العقيدة فقط لا غير و لذلك قام بعدة أعمال منها ما يلي:
توحيد القبائل و توسيع نفوذه : إن أول عمل قام به الأمير عبد القادر يتمثل في إخضاع القبائل التي رفضت الولاء له بصفته السلطة الشرعية للبلاد، و هذه القبائل تتمثل أغلبها في تلك التي كان الحكام العثمانيون الفاسدون يستعملونها لجلب الضرائب من القبائل الأخرى، و هذه القبائل كانت تسمى بقبائل المخزن و هي على استعداد لعرض ولائها للجيش الفرنسي مثلما كانت تعرضه على الحكم العثماني. و كان الأمير يعلم جيدا أن هذا الصراع بين مختلف القبائل سببه الحكام العثمانيون الفاسدون. فعمل عبد القادر من أجل القضاء على ذلك و توحيد الشعب كله تحت راية واحدة ضد العدو المشترك الجديد و هو الاستعمار الفرنسي.
إقامة مؤسسات الدولة الجديدة و تتكون مما يلي :
- مجلس الشورى: و يشبه البرلمان و يتكون من العلماء الكبار العارفين بشؤون الشريعة  و السياسة و يستشيرهم الأمير في كل كبيرة و صغيرة طبقا لقوله تعالى» و أمرهم شورى   بينهم«.
 - الحكومة: وكان يترأسها الأمير عبد القادر و تتشكل من سبع وزارات و هي الداخلية، الخارجية، المالية، الأوقاف، الأعشار و صنوف الزكاة، الحربية و وزارة الخزينة الخاصة،    و يعتبر وزيره للخارجية " المولود بن عراش " أشهر وزراء حكومة الأمير
و كان يشترط في تولي وظائف الدولة عدة شروط أهمها التدين العميق و الخلاق العالية و الكفاءة العلمية و الخبرة و الذكاء السياسي و القدرة على القيادة، هذا ما جعل حكومة الأمير تعتبر من أفضل حكومات العالم أثناء القرن 19 م.
و من أوائل أعمال حكومة الأمير إعلان المساواة بين جميع المواطنين دون أي تمييز عرقي أو ديني، فكان له مستشارون مسلمون و يهود و مسيحيون يشتركون كلهم في الولاء و الإخلاص للدولة، مثلما ألغى ما كان يسمى بقبائل المخزن التي كانت لها امتيازات أثناء العهد العثماني، و ألغى الضرائب الباهضة التي فرضها العثمانيون على السكان.

    - الرقابة الشعبية: كان الشعب يراقب حكومته في كل صغيرة و كبيرة و كان يطلب من الناس في الأسواق ممارسة هذا الحق فكان البراح ينادي دائما» من كانت له شكوى على الأمير أو نائبه أو الآغا أو القائد أو الشيخ أو الوزراء، فليرفعها للقاضي من غير واسطة، فإن الأمير ينصفه من ظالمه و من ظلم و لم يرفع مظلمته إلى الأمير فلا يلوم إلا نفسه « . و أكد الأمير على هذا المبدأ عندما كتب إلى ملك فرنسا يقول له » عليك أن تعلم أن أي إجراء لن يكون صالحا إذا لم يحظى بمصادقة الشعب« .
    - التقسيم الإداري: قسم الأمير عبد القادر البلاد إلى ثماني ولايات و على رأس كل واحدة منها نائب لها يدعى بالخليفة و هي: تلمسان، معسكر، مليانة، المدية أو تيطري، مجانة أو سطيف، بسكرة، الصحراء، برج حمزة أو البويرة أي منطقة القبائل الكبرى. و كل ولاية مقسمة إلى دوائر و كل دائرة تشمل على مجموعة قبائل.    
 و كان ينصب نوابه شخصيا أثناء زيارته إلى الولايات أين يطلب من سكانها اختيار حاكم لها، فمثلا عندما زار منطقة جرجرة بالقبائل الكبرى حظي باستقبال حاشد فخطب فيهم بقوله» إن كل مل أطلبه منكم هو الطاعة و الوفاق و المحافظة النامة على شرائع ديننا المقدس حتى ننتصر على الكفار، و لا اطلب منكم لتعضيد جيشنا سوى ما فرضه الله العلي القدير. إنني لا أرغب في تغيير تقاليدكم، و لا في إبطال قوانينكم و أعرافكم... إنني أدعوكم إلى الجهاد في سبيل الله ، ثم اقترح عليهم اختيار أحمد بن سالم رئيسا عليهم، فأجابوه بصيحة واحدة »اعطنا ابن سالم ...وخذ منا الزكاة. وخذ منا  العشور، و قدنا قد الكافرين، إننا أبناؤك و جندك و خدمك « .فولى ابن سالم نائبا له في منطقة القبائل وسط الأفراح و المهرجانات، و قد كان ابن سالم من أشهر الخلفاء الأوفياء الأمير عبد القادر و أشدهم بأسا على الجيش الفرنسي. وبقي الأمير أكثر من شهر في منطقة القبائل يتفقد أوضاعها، و كان يقوم بالأمر نفسه عند تنصيب نائبه في كل ولاية من الولايات الثمانية.
التعليم:
اهتم الأمير بالتعليم كثيرا عملا بأول الأمر من الله تعالى للمسلم و هو» اقرأ باسم ربك« و الذي فهمه أنه لا يمكن التقدم و بناء دولة مسلمة قوية جديرة بإيصال رسالة الإسلام إلى العالم إلا إذا تعلم المسلمون و اهتموا بقراءة الكتب و الأمل في الكون و الطبيعة مما يسمح لهم باكتشاف القوانين الطبيعية و العلمية ثم استعمالها في الاختراعات و الاكتشافات.
و لهذا كان التعليم يحتل المقام الأول في دولة الأمير عبد القادر فمثلا أسس في مدينة تلمسان وحدها 50 مدرسة أساسية و معهدين كبيرين للتعليم الثانوي و الجامعي. كما اهتم بالكتب النفسية و حرص على جمعها و جعلها في متناول شعبه.
الاهتمام بالصناعة:

أدرك الأمير أن أوروبا لم تصبح قوية إلا بعد القيام بثورتها الصناعية، مما جعله يهتم بالصناعة خاصة صناعة الأسلحة كالمدافع و البنادق والبارود و الرصاص لأن ظروف الاحتلال الفرنسي فرضت عليه ذلك، و كان يريد أن يجعل تلك الصناعة العسكرية قاعدة لصناعات أخرى بعد طرد الجيش الفرنسي من الناطق التي احتلها.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معاهدة دي ميشال 1834 مع الامير عبد القادر

أمام ضغط جيش الأمير عبد القادر عمل دي ميشال الحاكم الفرنسي بوهران من أجل عقد هدنة مع الأمير، فلجأ إلى حيلة تسمح له بالاتصال بالأمير و إقتراح الهدنة عليه فعمد دي ميشال إلى مرافقة بعض جنده لخونة جزائريين كانوا يزودون جيش الاحتلال بالمواد الغذائية، فألقى جيش الأمير القبض عليهم، فطار دي ميشال فرحا لان ذلك كان وسيلة للاتصال بالأمير عبد القادر و محادثته بشأن الأسرى و اقتراح الهدنة عليه. إلا أن الأمير عبد القادر رفض اقتراحات دي ميشال في البداية لكنه بعد استشارة المجلس الشوري و التفكير العميق بالمعاهدة التي كانت تنص على توقيف القتال و إطلاق سراح الأسرى و حرية التجارة.   و كان هدف الأمير عبد القادر من قبوله المعاهدة هو إيجاد متسع من الوقت لمواصلة بناء دولته و تصنيعها خاصة و أنها تسمح له باستيراد الأسلحة و الآلات الصناعية من أوروبا عبر البحر. نصت المعاهدة   على المواد التالية : "ان القائد العام للقوات الفرنسية في مدينة وهران وأمير المؤمنين سيدي الحاج عبد القادر بن محي الدين قررا العمل بالشروط التالية : المادة الاولى : ان الحرب بين الفرنسيين والعرب ستتوقف منذ اليوم وان ...

نقض معاهدة دي ميشال و انتصارات الأمير عبد القادر

ندمت فرنسا على عقد الهدنة خوفا من أن يتسع نفوذ الأمير و تتقوى دولته أكثر فعمدت إلى نقض الهدنة بتنحية دي ميشال عن حكم وهران و تنصيب الجنرال تريزل حاكما جديدا عليها، و كان من أشدّ المعارضين للمعاهدة، فنقضها بالمهاجمة على جيش الأمير عبد القادر بجيش ضخم يتجاوز 10 آلاف جندي، فهزم جيش الأمير بغابة مولاي إسماعيل فقتل أكثر من 150 جنديا. ففر الجيش الفرنسي تحت الضربات القاسية للمجاهدين، لكن الأمير عبد القادر أغلق في وجهه الطريق إلى أرزيو، فعاد جيش تريزل عبر مسلك واحد و هو نهر المقطع فنجحت خطة الأمير عندما أحاط المجاهدون بالجيش الاستعماري من كل الجهات فأشعلوا فيه النار و دبت الفوضى فيه، فقتلوا و أسروا أغلبهم و استولوا على العتاد و الأسلحة و المؤن و هرب تريزل مع القليل من جنده الناجين من ضربات جيش الأمير. وتعتبر معركة المقطع في 1835 من أشهر معارك الأمير التي تظهر دهاءه العسكري. عزلت الحكومة الفرنسية الجنرال تريزل بعد هزيمته في معركة المقطع التي أثارت الرأي العام الفرنسي، و عينت مكانه الجنرال كلوزيل كحاكم جديد لوهران، فطلب من حكومته دعما بجيش كبير للانتقام من الأمير، وسطر هدفه بقوله » لقد عزمن...

رحلة الامير عبد القادر الى الحج

عندما بلغ والده محي الدين الخمسين من عمره أراد الحج إلى البقاع المقدسة، و رفض أن يرافقه أي أحد إلا ابنه الرابع عبد القادر الذي لم يبلغ بعد 17 سنة من عمره، فعندما سمع الناس بالخبر أتوا من كل الجهات لتوديع محي الدين و ابنه ، فخشي الحاكم العثماني في وهران من تحول التجمع الضخم إلى ثورة ضد النظام الفساد فاضطر إلى احتجازهما لمدة سنتين بوهران، خاصة و أن محي الدين كان من أشد المعارضين لهذا النظام الذي قسم الشعب إلى فئات تتقاتل فيما بينها عملا بسياسة " فرق تسد" و الهدف من ذلك هو الحفاظ على المصالح الخاصة للنظام الذي كان ينهب عرق الشعب و يفرض ضرائب باهضة عليه مما يسمح لحاشية النظام مواصلة حياة الرّغد و الترف بينما الشّعب يموت جوعا، فكيف يقبل محي الدّين و ابنه عبد القادر بذلك و هما المتشبعان بحب العدل الذي ألح عليه الإسلام. و بعد سنتين من الاحتجاز تدخل داي الجزائر فسمح لهما بالذهاب إلى الحج معتقدا بأن ذلك وسيلة لإبعادهما عن البلاد و لو لمدة قصيرة. فعبرا تونس و وصلا إلى الإسكندرية عبر البحر المتوسط ليصلا إلى البقاع المقدسة برا، و عادا من الحد عبر دمشق و زارا قبر الولي الصالح عبد القاد...