التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مبايعة الامير عبد القادر

دخل جيش الإحتلال الفرنسي مدينة الجزائر يوم 05 جويلية 1830 و استسلم الداي العثماني بجيشه مقابل ضمان خروجه و حاشيته من الجزائر حاملين الأموال التي نهبوها من الشعب. فشرع الجيش الفرنسي في الزحف لاحتلال البلاد كلها فبدأ بالمدن الساحلية، فاحتل مدينة وهران في عام 1832، مثلما عمت الفوضى في البلاد و التقاتل بين مختلف القبائل التي زرع فيها الحكم العثماني الفاسد الأحقاد و الضغائن بينها، و لجأ جيش الاحتلال إلى التقتيل و النهب فاستولى على الخزينة التي كانت تحتوي على أموال طائلة فحوّلها إلى فرنسا.  
أمام هذا الوضع المتردي لجأ سكان الغرب الجزائري إلى الشيخ محي الدين يطلبون منه توليه الحكم و قيادة الجهاد ضد الإستعمار و إعادة الطمأنينة و الاستقرار، لكنه رفض لأنه كان يدرك أنه غير قادر على ذلك، فأشار عليهم بتولي ابنه عبد القادر الذي يمتلك صفات رجل الدولة بالإضافة إلى تدينه العميق مثلما أظهر براعة فائقة في القتال عندما كلّفه محي الدين بقيادة المجاهدين ضد الجيش الفرنسي في وهران.
و رحب السكان بفكرة تولي عبد القادر الإمارة لكن هذا الأخير لم يقبل إلا بعد مبايعته من طرف السكان، فتم ذلك تحت شجرة الدردار الضخمة بقرب معسكر في شهر نوفمبر من عام 1832، فحددوا له مهمته بقولهم » إننا في حاجة إلى من يقود سفينتنا  ويقف في وجه العدو في الداخل و الخارج  ليذيقه الذاب، و لهذا قد اتفق العام و الخاص في إسناد الإمارة لعبد القادر بن محي الدين« .  فكان أبوه أول المبايعين فأطلق عليه لقب " ناصر الدين" .
البيعة الأولى
توجه الأمير بعد البيعة إلى معسكر ووقف خطيبا في مسجدها أمام الجموع الكبيرة فحث الناس على الانضباط والالتزام ودعاهم إلى الجهاد والعمل وبعد الانصراف أرسل الأمير الرسل والرسائل إلى بقية القبائل والأعيان الذين لم يحضروا البيعة لإبلاغهم بذلك، ودعوتهم إلى مبايعته أسوة بمن أدى واجب الطاعة.
البيعة الثانية
قبر عائلي ل 25 فرد من عائلة الأمير عبد القادر بحدائق قصر أومبواز الفرنسي إبان سجنه هناك (من بينهم إحدى زوجات الأمير، أخوه وإثنين من أبنائه.
لما داع خبر البيعة الأولى بادر أعيان ووحهاء ورؤساء القبائل التي لم تبايع إلى المبايعة فتمت في مسجد بمعسكر يسمى حاليا بـ مسجد سيدي الحسان حيث حررت وثيقة أخرى للبيعة وقرئت على الشعب وتولى كتابتها محمود بن حوا المجاهدي أحد علماء المنطقة وجاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي الطيب الكريم وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل العظيم حمداً لمن فضل أمة محمد عليه السلام وخصها بمزايا لم يعطها أحداً من الأنام وجعلها خير أمة أخرجة للناس يامرون بالمعروف وينهون عن المنكرات والأرجاس هداهم به إلى الرشاد وطهرهم من عبادة الأوثان والأنداد والأضداد وجعلهم الشهداء على من سواهم من الأنام فشرف بذلك أمرهم ورفع قدرهم وجعل إجماعهم حجة وسبيلهم أقوم محجة وأوجب عليهم نصب إمام عدل وفرض عليهم اتباعه في القول والفعل ليكف الظالم وينصر المظلوم ويجمع شملهم بالخصوص والعموم ويكافح بهم عدو الدين لتكون العليا كلمة المسلمين وصلاة وسلاماً على من صدع بالحق ودعا الخلق إلى القول بالصدق وجاهد في الله حق جهاده حتى استقام المعوج وآب عن فساده سيدنا ومولانا محمد أشرف رسول وأكرم شافع مقبول صاحب المقام المحمود والحوض المورود وعلى آله وأصحابه أهل وداده وسيوف جلاده الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في طاعته ونصرته وأوضحوا شريعته وبينوا طريقته فحازوا بذلك أسنى المراتب ونالوا الدرجات العلى والمناصب فهم نجوم الإهتدا ومصابيح الإقتدا هذا ولما انقرضت الحكومة الجزائرية من سائر المغرب الأوسط واستولى العدو على مدينة الجزائر ومدينة وهران، وطمحت نفسه العاتية إلى الاستيلاء على الجبال والسهول، والفدافد والتلال، وصار الناس في هرج ومرج وحيص وبيص لا ناهي عن منكر ولا من يعظ ويزجر قام من وفقهم الله للهداية وظهرت عليهم العناية من رؤساء القبائل وكبرائها وصناديدها وزعمائها، فتفاوضوا في نصب إمام يبايعونه على كتاب الله والسنة فلم يجدوا لذلك المنصب الجليل إلا ذا النسب الطاهر ن والكمال الباهر رأس الملة والدينقامع اعداء الله الكافرينأبا المكارم السيد عبد القادر ابن مولانا السيد محي الدين أيد الله به الإسلام والمسلمين وأحيا به ما اندرس من معالم الدين فبايعوه على كتاب الله العظيم وسنة نبيه الكريم. إن الذين يبايعونك أنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ثم قدمت على حضرته الوفود من سائر الجهات والحدود أولهم وآخرهم شريفهم ومشروفهم كبيرهم وصغيرهم بيعة تامة كاملة عامة بيعة سمع وطاعة أفراداً وجمعة بيعة عز وتعظيم وتبجيل وتكريم بيعة يعز الله بها الإسلام ويحذل بها الفجار اللئام يمنعون عنه السوء بما يمنعون به انفسهم وأولادهم وأموالهم ويبذلون في مرضاته أرواحهم وأكبادهم إن أمرهم سمعوا وإن نهاهم حشعوا وخضعوا يطيعونه ما ساسهم بالشريعة الغراء وينصرونه في السراء والضراء فمن وفى بيعته نال مسرته واتقى مضرته ولاقى مبرته ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وخسر في يومه وأمسه والله المسؤول في هداية الخلق إلى طريق الحق والرأفة والرفق ولما إزدهت هذه البيعة بكمالها وطرزت بجلالها وجمالها كمل سرورها وتمت بدورها بوزارة أبي المحاسن السيد محمد بن السيد العربي أقام الله به أمر هذه الدولة السنية والإمامة البهية وممن حضر هذه البيعة وبايع وسمع لها وتابع من القبائل الشرقية والأحياء الغربية الوزير المذكور وبنو عمه وسائر العلماء والأعيان من معسكر وقلعة هوارة وأحوازهما كبني شقران وبني غدوا وسجرارة وقبائل غريس وأحيائه وغمائره وعشائره وأعيان القبائل الشرقية كالعطاف وسنجاس وبني القصير ومرابطي مجاجة وصبيح وبني خويدم وبني العباس وعكرمة والمحال وفليته والمكاحلية وأحلافهم وأعيان مجاهر والبرجيه والدوائر والزمالة والغرابة وكافة قبائل اليعقوبية والجعافرة والحساسنة وبني خالد وبني إبراهيم ثم القبائل القبلية كأولاد شريف وأولاد الأكرد وصدامة وخلافة وغيرهم ممن يطول ذكرهم من قبائل المغرب الأوسط وعمائره سهله ووعره ثم الكل بايعوا عن أنفسهم وعن قبائلهم بالإذن العام من الخواص والعواموقعت هذه البيعة العامة في ثلاثة عشر رمضان سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف وفي الرابع من فبراير سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة كتبها خادم الشريعة السمحاء محمد الشهير بابن حوا»
وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله 13 رمضان 1248 هـ الموافق لـ 4 فبراير 1833 م

و بعد المبايعة بدأ الناس يرددون و هم فرحون برئيسهم الذي طلب منهم الإستعداد للجهاد ضد المستعمر فيقولون » حياتنا و أملاكنا و كل ما عندنا له، لن نطيع قانونا غير قانون سلطاننا عبد القادر«   فأجابهم بقوله » و أنا بدوري لن آخذ بقانون غير القرآن، لن يكون مرشدي غير تعاليم القرآن، و القرآن وحده، فلو أن أخي  الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لمات « .

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معاهدة دي ميشال 1834 مع الامير عبد القادر

أمام ضغط جيش الأمير عبد القادر عمل دي ميشال الحاكم الفرنسي بوهران من أجل عقد هدنة مع الأمير، فلجأ إلى حيلة تسمح له بالاتصال بالأمير و إقتراح الهدنة عليه فعمد دي ميشال إلى مرافقة بعض جنده لخونة جزائريين كانوا يزودون جيش الاحتلال بالمواد الغذائية، فألقى جيش الأمير القبض عليهم، فطار دي ميشال فرحا لان ذلك كان وسيلة للاتصال بالأمير عبد القادر و محادثته بشأن الأسرى و اقتراح الهدنة عليه. إلا أن الأمير عبد القادر رفض اقتراحات دي ميشال في البداية لكنه بعد استشارة المجلس الشوري و التفكير العميق بالمعاهدة التي كانت تنص على توقيف القتال و إطلاق سراح الأسرى و حرية التجارة.   و كان هدف الأمير عبد القادر من قبوله المعاهدة هو إيجاد متسع من الوقت لمواصلة بناء دولته و تصنيعها خاصة و أنها تسمح له باستيراد الأسلحة و الآلات الصناعية من أوروبا عبر البحر. نصت المعاهدة   على المواد التالية : "ان القائد العام للقوات الفرنسية في مدينة وهران وأمير المؤمنين سيدي الحاج عبد القادر بن محي الدين قررا العمل بالشروط التالية : المادة الاولى : ان الحرب بين الفرنسيين والعرب ستتوقف منذ اليوم وان ...

نقض معاهدة دي ميشال و انتصارات الأمير عبد القادر

ندمت فرنسا على عقد الهدنة خوفا من أن يتسع نفوذ الأمير و تتقوى دولته أكثر فعمدت إلى نقض الهدنة بتنحية دي ميشال عن حكم وهران و تنصيب الجنرال تريزل حاكما جديدا عليها، و كان من أشدّ المعارضين للمعاهدة، فنقضها بالمهاجمة على جيش الأمير عبد القادر بجيش ضخم يتجاوز 10 آلاف جندي، فهزم جيش الأمير بغابة مولاي إسماعيل فقتل أكثر من 150 جنديا. ففر الجيش الفرنسي تحت الضربات القاسية للمجاهدين، لكن الأمير عبد القادر أغلق في وجهه الطريق إلى أرزيو، فعاد جيش تريزل عبر مسلك واحد و هو نهر المقطع فنجحت خطة الأمير عندما أحاط المجاهدون بالجيش الاستعماري من كل الجهات فأشعلوا فيه النار و دبت الفوضى فيه، فقتلوا و أسروا أغلبهم و استولوا على العتاد و الأسلحة و المؤن و هرب تريزل مع القليل من جنده الناجين من ضربات جيش الأمير. وتعتبر معركة المقطع في 1835 من أشهر معارك الأمير التي تظهر دهاءه العسكري. عزلت الحكومة الفرنسية الجنرال تريزل بعد هزيمته في معركة المقطع التي أثارت الرأي العام الفرنسي، و عينت مكانه الجنرال كلوزيل كحاكم جديد لوهران، فطلب من حكومته دعما بجيش كبير للانتقام من الأمير، وسطر هدفه بقوله » لقد عزمن...

رحلة الامير عبد القادر الى الحج

عندما بلغ والده محي الدين الخمسين من عمره أراد الحج إلى البقاع المقدسة، و رفض أن يرافقه أي أحد إلا ابنه الرابع عبد القادر الذي لم يبلغ بعد 17 سنة من عمره، فعندما سمع الناس بالخبر أتوا من كل الجهات لتوديع محي الدين و ابنه ، فخشي الحاكم العثماني في وهران من تحول التجمع الضخم إلى ثورة ضد النظام الفساد فاضطر إلى احتجازهما لمدة سنتين بوهران، خاصة و أن محي الدين كان من أشد المعارضين لهذا النظام الذي قسم الشعب إلى فئات تتقاتل فيما بينها عملا بسياسة " فرق تسد" و الهدف من ذلك هو الحفاظ على المصالح الخاصة للنظام الذي كان ينهب عرق الشعب و يفرض ضرائب باهضة عليه مما يسمح لحاشية النظام مواصلة حياة الرّغد و الترف بينما الشّعب يموت جوعا، فكيف يقبل محي الدّين و ابنه عبد القادر بذلك و هما المتشبعان بحب العدل الذي ألح عليه الإسلام. و بعد سنتين من الاحتجاز تدخل داي الجزائر فسمح لهما بالذهاب إلى الحج معتقدا بأن ذلك وسيلة لإبعادهما عن البلاد و لو لمدة قصيرة. فعبرا تونس و وصلا إلى الإسكندرية عبر البحر المتوسط ليصلا إلى البقاع المقدسة برا، و عادا من الحد عبر دمشق و زارا قبر الولي الصالح عبد القاد...