لم يصدق وزير المستعمرات الخبر في البداية. وغراتسياني الذي كان متوجهًا إلى باريس نزل من قطاره ليعود مسرعًا إلى بنغازي. ثم انقلبت دهشتهم إلى فرح هستيري، والإصرار على "محاكمة فوريَّة والإعدام بصورة صاخبة ومُثيرة" كما جاء في برقيَّة دى بونو وزير المستعمرات إلى بادوليو حاكم ليبيا. لكن ما فاجأ الطليان كان هدوء الأسير وصراحته المُذهلة في الرد على أسئلة المُحققين، بثباتٍ تام ودون مراوغة، إذ قال لهم: «نعم قاتلت ضد الحكومة الإيطاليَّة، لم أستسلم قط. لم تخطر ببالي قط فكرة الهرب عبر الحدود. منذ عشر سنوات تقريبًا وأنا رئيس المحافظية. اشتركت في معارك كثيرة لا أستطيع تحديدها. لا فائدة من سؤالي عن وقائع منفردة. وما وقع ضد إيطاليا والطليان، منذ عشر سنوات وحتى الآن كان بإرادتي وإذني. كانت الغارات تُنفَّذ بأمري، وبعضها قمت به أنا بنفسي. الحرب هى الحرب. أعترف بأنه قُبض عليّ والسلاح بيدي، أمام الزاوية البيضاء، في غوط اللفو، هل تتصورون أن أبقى واقفًا دون إطلاق النار أثناء القتال؟ ولا أشعر بالندم عمَّا قمت به».
وصل غراتسياني إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر، وأعلن عن انعقاد "المحكمة الخاصة" يوم 15 سبتمبر 1931، وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب غراتسياني في الحديث مع عمر المختار. يذكر غراتسياني في مذكراته: «وعندما حضر أمام مكتبي تهيَّأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المُرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراويَّة. يداه مُكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أُصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطًا لأنه كان مُغطيًا رأسه بالَجَرِدْ ويجرّ نفسه بصعوبة نظرًا لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يُخيل لي أنَّ الذي يقف أمامي رجلٌ ليس كالرجال: له منظره وهيبته رغم أنَّه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقفٌ أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوتٍ هادئ وواضح».
- غراتسياني: لماذا حاربت بشدَّة متواصلة الحكومة الفاشيَّة؟
- أجاب المختار: من أجل ديني ووطني.
- غراتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
- فأجاب المختار: لا شيء إلَّا طردكم … لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرضٌ علينا وما النصر إلا من عند الله.
- غراتسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟
- فأجاب المختار: لا يُمكنني أن أعمل أي شيء … وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلَّنا الواحد بعد الأخر، ولا نسلّم أو نُلقي السلاح.
ويستطرد غراتسياني حديثه: «عندما وقف ليتهيأ للانصراف، كان جبينه وضاء كأنَّ هالة من نور تُحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض المعارك والحروب العالميَّة، والصحراويَّة، ولُقبت بأسد الصحراء، ورُغم هذا فقط كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنبس بحرفٍ واحد، فانتهت المُقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه للمُحاكمة في المساء، وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمُصافحتي ولكنَّه لم يتمكن لأن يديه كانت مُكبلة بالحديد. لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير».
تعليقات